حين انطلقت الثورة في تونس الشقيقة عقب إحراق محمد بوعزيزي لنفسه في لحظة من اللحظات المُلهمة والفارقة في تاريخ تونس، تساءل الكثيرون: هل من الممكن أن تنتقل الثورة إلى مصر؟.. بالطبع سارعت النخبة الحاكمة في مصر ـ كما هو الحال دائماً ـ إلى التصريح، استهزاءاً وتهكُماً، باستحالة ذلك وأن مصر تختلف اختلافاً جذرياً عن تونس، وأن النظام في مصر من القوة والثبات والرسوخ بحيث يمنع حتى من مجرد التفكير في استدعاء أو استحضار لفظ الثورة.
من ناحية أخرى طفقت النخبة المثقفة والفكرية تعقد مقارنات بين الأوضاع في تونس ومصر، وما هي أوجه الاتفاق والاختلاف.. في محاولة لاستشراف المستقبل وهل ثمة أضواء كاشفة يمكن أن تقودنا إلى معرفة مدى إمكانية قيام ثورة في مصر أو لا؟.. كان هناك فريق يعتقد بأن الثورة وشيكة، وليس هناك ما يمنع من قيامها، فالظروف تكاد تكون متشابهة إلى حد بعيد، من حيث درجة الاستبداد والفساد.. فالدولة البوليسية موجودة هنا وهناك، والقبضة الأمنية الحديدية تمسك بتلابيب الوطن والمواطنين بنفس الدرجة في كلا البلدين، كما أن الفساد مُستشر ومُتغلغل فيهما بطريقة مرعبة ومفزعة.. وفريق ثان كان يشكك، بل يستبعد قيام الثورة، وأنها ربما تحتاج إلى ألف مواطن ـ على الأقل ـ من مثل محمد بوعزيزي حتى يتحرك الشعب المصري!.
كانت وجهة نظر هذا الفريق تتلخص في ثلاثة أمور، أولها: أن النظام في مصر كان يسمح بقدر كبير من حرية النقد والتعبير بعكس ما كان يحدث في تونس، وهو ما كان يُمثل تسريباً مُنتظماً ومُمنهجاً للبُخار المكتوم، الأمر الذي يستحيل معه حدوث الانفجار.. ثانيها: أن الفساد في تونس كان مُقتصراً على النخبة الحاكمة وحزبها، بينما نجح النظام المصري في إفساد قطاعات كبيرة من الشعب، ناهيك عن تسطيح الأفكار وتغييب الوعي العام وتخريب الضمائر والذمم، وهو ما يجعل الشعب غير قادر على استجماع قوته وعافيته، فضلاً عن عدم استعداده للبذل والتضحية في مواجهة نظام قوي باطش لا أخلاق له ولا مروءة لديه ولا خطوط حمراء يقف عندها.. ثالثها: أن النظام في تونس قطع رؤوس المقاومة، على اختلاف فصائلها وتوجهاتها، وأجلاها عن تونس، وهو ما جعل الشعب التونسي يتحمل مسئوليته الكاملة في الدفاع عن حريته وكرامته من ناحية، ويبدو موحداً قوياً من ناحية ثانية في مواجهة النظام القمعي.. ولا شك أن الاتحاد العام للشغل ''العمال'' لعب دوراً عظيماً في ذلك.
وعلى النقيض كانت الأحزاب والقوى السياسية في مصر مُنقسمة ومُتشرذمة، بل إن النظام استطاع أن يسيطر على جزء كبير منها وأن يستأنها ويُدجنها، وهو ما أدى إلى أن يفقد الشعب المصري الأمل فيها وينصرف عنها إلى لامبالاته وسلبيته، فلا هي قامت بمواجهة النظام كما يفرض عليها دورها، ولا هي حتى قامت باستنهاض همة الشعب والوقوف إلى جواره في أزماته ومحناته.
لقد أخطأ الفريق الثاني في تقديره حين اعتقد عدم إمكانية قيام الشعب المصري بالثورة.. أخطأ لأنه تجاهل هذا الفعل المُتراكم لحركات الاحتجاج الاجتماعي والسياسي التي سادت المجتمع المصري لعدة سنوات، خاصة منذ بداية عام 2004.. وأخطأ ثانياً لأنه وقف عند حد الواقع المُر، ولم يتجاوزه، واستسلم للمفهوم السائد للسياسة من أنها إتقان فن الممكن، أو التعامل مع القدر المُتاح والمُباح، وهو عادة ما يكون محدوداً ومتواضعاً وبقدر ما تسمح به السلطة القمعية، وهذا لا يمكن أن يؤدي إلى ثورة أو تغيير.. وأخطأ ثالثاً لأنه عجز عن أن يكون له حلم في غد تُشرق فيه شمس الحرية، وأن الحرية هي حق أصيل له وأنها ليست منحة أو هبة من أحد، وأنه قادر على تحقيقها لو امتلك الإرادة.. نعم لقد كانت الحرية حلماً وخيالاً، لكنه حلم جميل وخيال نبيل.
إن النبلاء الذين أعدوا لتظاهرات 25 يناير، والعُظام الذين خرجوا في ذلك اليوم رغم علمهم بما يمكن أن يتعرضوا له من قمع وضرب وسحل واعتقال، والأبطال الذين حضروا وثبتوا وضحوا في جمعة الغضب ''يوم 28 يناير'' ويوم الأربعاء ''2 فبراير'' يوم موقعة الجمال والخيول الشهيرة، وشعب مصر العظيم بملايينه التي خرجت تُشارك وتُحمى، بل تعطي للثورة اسمها وسماتها وملامحها، أقول: هؤلاء جميعاً كانت لديهم القدرة على الحلم، والقدرة على تحقيقه وتجسيده على أرض الواقع، فكان لهم ما أرادوا.. ومن ثم لا يجب أن نتوقف عن الحلم.
لقد حققت ثورة 25 يناير الكُبرى إنجازات عظيمة، لكن بقيت هناك أهداف أخرى، لا تقل أهمية، تحتاج أن نبذل من أجلها كل نفس ونفيس.. وهذا بالطبع يستلزم استمرار الروح والحلم الذي ظهر وواكب الثورة بنفس الدرجة، وربما أشد، لتحقيق تلك الأهداف التي يمكن إيجازها في النقاط التالية:
- أولاً: تطهير المجتمع من أركان وجذور النظام البائد والتي لا زالت تعمل على استنزاف قوى الثورة أملاً في استعادة مجدها القديم.
- ثانياً: بناء كافة مؤسسات الدولة على أسس علمية ومنهجية صحيحة وسليمة، تخطيطاً وإدارة وتنظيماً وتحديثاً، واتساقاً مع أحد أهداف الثورة وهو إقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي.
- ثالثاً: بناء مؤسسات المجتمع المدني بما يؤدي إلى نهضة مصر.. فنحن مثلاً ـ بجانب إنشاء الأحزاب ـ في أمس الحاجة إلى جمعيات تنموية في الزراعة، والصناعة، والتعليم والبحث العلمي وامتلاك التكنولوجيا، والصحة، والإسكان. إلخ.. وهذا كله يتطلب استعادة روح تلك السبيكة المتماسكة والقوية التي قامت الثورة على أكتافها، أقصد سبيكة ميدان التحرير.
أعتقد أن الكل متفق الآن على أنه لن يستطيع فصيل سياسي أيا كان حجمه ووزنه وانتشاره أن يحقق تلك الأهداف، الأمر الذي يستدعي تكاتف كل القوى وتضافر كل الجهود، وبروح الثورة التي أذهلت العالم وجعلت شعب مصر يستعيد مكانته ومنزلته بين الأمم.. يقول أحمد زكي أبو شادي، الشاعر المُجدد، في قصيدته ''نداء الحرية'' عام 1951:
بوركت ياشعب الكنانة ثائراً حراً و يا وطن البطولة قاهراً
أزجى إليك تحيتي من خاطر دام ومن قلب يذوب مشاعر
يأبى النفاق ولا يبوح بغير ما جعل الحياة نفائساً وذخائراً